سورة النحل - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)}
المراد بالوحي هاهنا: الإلهام والهداية والإرشاد إلى النحل أن تتخذ من الجبال بيوتا تأوي إليها، ومن الشجر، ومما يعرشون. ثم هي محكمة في غاية الإتقان في تسديسها ورصها، بحيث لا يكون بينها خلَل.
ثم أذن لها تعالى إذنا قدريا تسخيريا أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى لها مذللة، أي: سهلة عليها حيث شاءت في هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة، والأودية والجبال الشاهقة، ثم تعود كل واحدة منها إلى موضعها وبيتها، لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة، بل إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل، فتبني الشمع من أجنحتها، وتقيء العسل من فيها وتبيض الفراخ من دبرها، ثم تصبح إلى مراعيها.
وقال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: {فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا} أي: مطيعة. فجعلاه حالا من السالكة. قال ابن زيد: وهو كقول الله تعالى: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] قال: ألا ترى أنهم ينقلون النحل من بيوته من بلد إلى بلد وهو يصحبهم.
والقول الأول أظهر، وهو أنه حال من الطريق، أي: فاسلكيها مذلَّلةً لك، نص عليه مجاهد.
وقال ابن جرير: كلا القولين صحيح.
وقد قال أبو يعلى الموصلي: حدثنا شيبان بن فَرُّوخ، حدثنا سُكَيْن بن عبد العزيز، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُمْرُ الذباب أربعون يوما، والذباب كله في النار إلا النحل».
وقوله تعالى {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أي: ما بين أبيض وأصفر وأحمر وغير ذلك من الألوان الحسنة، على اختلاف مراعيها ومأكلها منها.
وقوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي: في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم. قال بعض من تكلم على الطب النبوي: لو قال فيه: الشفاء للناس لكان دواء لكل داء، ولكن قال {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} أي: يصلح لكل أحد من أدواء باردة، فإنه حار، والشيء يداوى بضده.
وقال مجاهد بن جَبْر في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} يعني: القرآن.
وهذا قول صحيح في نفسه، ولكن ليس هو الظاهر هاهنا من سياق الآية؛ فإن الآية إنما ذكر فيها العسل، ولم يتابع مجاهد على قوله هاهنا، وإنما الذي قاله ذكروه في قوله تعالى: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} الآية [الإسراء: 82]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].
والدليل على أن المراد بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} هو العسل- الحديثُ الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية قتادة، عن أبي المتوكل علي بن داود الناجي، عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي استَطْلَق بطنُه. فقال: «اسقه عسلا». فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول الله، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا! قال: «اذهب فاسقه عسلا». فذهب فسقاه، ثم جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده إلا استطلاقا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق الله، وكذب بطن أخيك! اذهب فاسقه عسلا». فذهب فسقاه فبرئ.
قال بعض العلماء بالطب: كان هذا الرجل عنده فضلات، فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت، فأسرعت في الاندفاع، فزاد إسهاله، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع، ثم سقاه فكذلك، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن استمسك بطنه، وصلح مزاجه، واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين، من حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل. هذا لفظ البخاري.
وفي صحيح البخاري: من حديث سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفاء في ثلاثة: في شَرْطةِ مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كيَّةٍ بنار، وأنهى أمتي عن الكي».
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل، عن عاصم بن عمر بن قتادة، سمعت جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم، أو يكونُ في شيء من أدويتكم خير: ففي شرطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي».
ورواه مسلم من حديث عاصم بن عمر بن قتادة، عن جابر، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق، أنبأنا عبد الله، أنبأنا سعيد بن أبي أيوب، حدثنا عبد الله بن الوليد، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر الجُهَني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث إن كان في شيء شفاء: فشَرْطة مِحْجَم، أو شربة عسل، أو كيَّة تصيب ألما، وأنا أكره الكي ولا أحبه».
ورواه الطبراني عن هارون بن مَلّول المصري، عن أبي عبد الرحمن المقرئ، عن حيوة بن شريح عن عبد الله بن الوليد، به. ولفظه: «إن كان في شيء شفاء: فشرطة محجم»... وذكره وهذا إسناد صحيح ولم يخرجوه.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني في سننه: حدثنا علي بن سلمة- هو اللبقي- حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن».
وهذا إسناد جيد، تفرد بإخراجه ابن ماجه مرفوعًا، وقد رواه ابن جرير، عن سفيان بن وَكِيع، عن أبيه، عن سفيان- هو الثوري- به موقوفا: وَلَهو أشبه.
وروينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صَحْفَة، وليغسلها بماء السماء، وليأخذ من امرأته درهما عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلا فليشربه بذلك، فإنه شفاء. أي: من وجوه، قال الله: {وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} [الإسراء: 82] وقال: {وَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4]، وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ}
وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا محمود بن خِدَاش، حدثنا سعيد بن زكريا القرشي، حدثنا الزبير بن سعيد الهاشمي، عن عبد الحميد بن سالم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لَعِق العسل ثلاث غَدَوَاتٍ في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء».
الزبير بن سعيد متروك.
وقال ابن ماجه أيضًا: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف بن سَرْح الفريابي، حدثنا عمرو بن بكر السَّكْسَكي، حدثنا إبراهيم بن أبي عبَلة. سمعت أبا أبي ابن أم حَرَام- وكان قد صلى القبلتين- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عليكم بالسَّنَى والسَّنُّوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام». قيل: يا رسول الله، وما السام؟ قال: «الموت».
قال عمرو: قال ابن أبي عبلة: «السَّنُّوت»: الشِّبْتُ.
وقال آخرون: بل هو العسل الذي يكون في زِقَاق السمن، وهو قول الشاعر:
هُمُ السَّمْنُ بالسَّنُّوت لا ألْسَ فيهم *** وَهُمْ يَمنَعُونَ الجارَ أنْ يُقَرَّدا
كذا رواه ابن ماجه. وقوله: لا ألْسَ فيهم أي: لا خلط. وقوله: يمنعون الجار أن يقَرَّدا، أي يضطهد ويظلم.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامه والاجتناء من سائر الثمار، ثم جمعها للشمع والعسل، وهو من أطيب الأشياء، {لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها، فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر، الحكيم العليم، الكريم الرحيم.


{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)}
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم، ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهَرَم- وهو الضعف في الخلقة- كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].
وقد روي عن علي، رضي الله عنه، في أرذل العمر قال خمس وسبعون سنة. وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم؛ ولهذا قال: {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} أي: بعد ما كان عالمًا أصبح لا يدري شيئًا من الفَنَد والخرف؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية:
حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور، عن شُعَيب، عن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو: «أعوذ بك من البخل والكسل، والهرم وأرذل العمر، وعذاب القبر، وفتنة الدجال، وفتنة المحيا والممات».
ورواه مسلم، من حديث هارون الأعور، به.
وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:
سَئمتُ تَكَاليفَ الحيَاة ومَنْ يعشْ *** ثمانينَ عاما- لا أبَالك- يَسْأم
رَأيتُ المَنَايا خَبط عَشْواء من تصِبْ *** تمتْه ومَنْ تُخْطئ يُعَمَّرْ فَيهْرَمِ


{وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)}
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء، وهم يعترفون أنها عبيد له، كما كانوا يقولون في تلبياتهم في حجهم: «لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك». فقال تعالى منكرا عليهم: إنكم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم، فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيده له في الإلهية والتعظيم، كما قال في الآية الأخرى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية [الروم: 28].
قال العوفي، عن ابن عباس في هذه الآية: يقول: لم يكونوا ليشركوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني، فذلك قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
وقال في الرواية الأخرى، عنه: فكيف ترضون لي مالا ترضون لأنفسكم.
وقال مجاهد في هذه الآية: هذا مثل الآلهة الباطلة.
وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله، فهل منكم من أحد شارك مملوكه في زوجته وفي فراشه، فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن لم ترض لنفسك هذا، فالله أحق أن ينزه منك.
وقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي: أنهم جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فجحدوا نعمته وأشركوا معه غيره.
وعن الحسن البصري قال: كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هذه الرسالة إلى أبي موسى الأشعري: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فَضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بل يبتلي به كلا فيبتلي من بَسَط له، كيف شُكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله؟ رواه ابن أبي حاتم.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13